وجدت دار الريح نفسها فجأة، دون أي مقدمات، في حرب ضروس.
أصبح ظهرها المُمتد من بداية دار حامد، مروراً بدار المجانين، وليس انتهاءاً بدار الكبابيش. خطاً واسعاً لامداد الجنجويد وتهريب سرقاتهم الخرطومية.
صحراء طويلة عريضة، تبدأ من الأبيض شمالاً حتى حدود ليبيا.
تخيل يا سيدي! منذ سبعمائة سنة، وهذه الصحراء دون أي وجود حكومي فعلي.
لا خدمات، لا رعاية، لا اهتمام.
يعتاشُ الناس هناك، من اقتصادهم التقليدي، دون أن يقلقون مضجع الحكومة ولا يأبهون أن تُقلق الحكومة مضاجعهم.
الناس هُناك يعتمدون على نظامهم البدوي السياسي. وهو ذات النظام الذي أقروه للحكم والتحاكم.
حتى قبل ظهور "البكوية" التركية و "الباشوية" الأنجلومصرية كان البدو يعرفون ما لهم وما عليهم وفق أعراف وتقاليد قديمة.
عانت دار الريح معاناة شديدة في هذه الحرب، لكن تركيبة الناس البدوية هناك، نافست العير في الصبر.
فهم أبناء الناقة وأحباؤها.
ظل العمدة الصافي في أم كريدم والأمير سليمان جابر في المزروب. يتعاملان مع ملف الحرب بحصافة وحكمة قلّ نظيرها. مجنبين المنطقة وأهلها صداماً كان سيريق دماءً لا أول لها ولا أخر. لم يكن الأمر جبناً منهم، ولا من الرجال الذين يحكمونهم، لكنها حكمة ترتكز على مبدأ:
"بارك الله في رجل عرف قدر نفسه".
وجد بدو الصحراء أنفسهم وسط ورطتين:
لا هم يملكون إمكانيات تصد عنهم الجنجا، ولا آثر لأي وجود حكومي هناك.
فاختاروا الحكمة والتقية.
ظل الشيخ سليمان جابر، ناظر قبيلة المجانين. مرابطاً في مزروبه، لم يغادره قط، إلا لحلحلة مشكل أو رتق فتق، ولم يُذكر طوال هذه الحرب، أن اتسع الفتق على الراتق.
ذهبنا إليه في دكة جابر في ٢٠١٩ رفقة الاخ محمد الجد فأحسن وفادتنا وأكرم نُزلنا وأنطلق بنا قُرب المُشرع، حيث "ضِمى إلبل":
جلسنا معه وسط إبله محتبئين.
مازحه ود الجد:
أبا الناظر، إت كِبِر ترا، ما بتقدر تان على بركة الصُبيان دي .
رد الشيخ الوسيم بذات المزاح:
عليا الطلاق آآ مُحمد أنِي دي أشبّ منك.
فأحتبأ أفضل منا.
ثم راح يسكب لنا الكأس تلو الأخر من (كُورة لبن) وضعها الراعِ أمامنا بمنتهى التواضع.
تعحبت!
وكأنه ليس الرجل الفصيح الأنيق الذي قابلته قبل عامين في مؤتمر الإدارات الأهلية بالأبيض.
رجل يلبِس كل حالة لبوسها.
فرّ في هذه الحرب الكثير من الرجال.
من بيوتهم، ومؤسساتهم، وقبائلهم.
لكنه ظلّ يقوم بدوره تجاه أرضه وعرضه وصحراءه التي يحكمها.
أياً كانت الظروف التي قُتل فيها هذا الرجل وأعوانه وأهله، وأياً كانت الجهة المتورطة في قتله.
فإنه مات شُجاعاً، قائداً، مهياصاً.
وستحفظ له هذه الصحراء، تلك الصنيعه، حتي يأمر الله الملك بنفخ الصُور.
اللهم تقبلهم عندك القبول الحسن.
داخل السرب:
تموت مِتل الشدر واقف
تموت واقف على حيلك
فياااااا حليلك
أزهري محمد علي.
خارج السرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ
وما هي عنها بالحديث المرجم
زهير بن أبي سلمى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق